أوكرانيا توقف الغاز الروسي- من يعاقب من، وأين تذهب المكاسب؟

المؤلف: جيرار ديب09.25.2025
أوكرانيا توقف الغاز الروسي- من يعاقب من، وأين تذهب المكاسب؟

خلال حديثه مع الصحافة إثر انعقاد قمة رابطة الدول المستقلة، صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن أوكرانيا تقوم بمعاقبة دول أوروبا من خلال الامتناع عن تجديد العقد الخاص بتوريد الغاز الطبيعي الروسي. وأضاف بوتين أن موسكو على استعداد تام لتزويد دول الاتحاد الأوروبي بالغاز عبر الأراضي البولندية.

وفي تطورات ذات صلة، توقفت شحنات الغاز الطبيعي الروسي عبر خطوط الأنابيب التي تعبر الأراضي الأوكرانية باتجاه القارة الأوروبية في الساعات الأولى من صباح يوم الأربعاء الموافق الأول من يناير/كانون الثاني الجاري، وذلك بعد انتهاء صلاحية الاتفاقية الخاصة بالعبور، وعقب فشل المفاوضات بين موسكو وكييف في التوصل إلى اتفاق جديد يضمن استمرار تدفقات الغاز.

إن أي مراقب لارتفاعات أسعار الغاز الطبيعي التي تشهدها الأسواق الأوروبية مع بداية العام الجديد 2025، والتي بلغت مستويات قياسية لم تسجل منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2023، متجاوزة حاجز الـ50 يورو لكل ميغاواط، وذلك على خلفية التوقف التام لعبور الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية، لا يسعه إلا أن يقر بصحة التحذيرات التي أطلقها الرئيس بوتين.

إلا أن النقطة التي لم يصب بها الرئيس بوتين، فتتعلق بالجانب "العقابي" الذي أشار إليه في حديثه. فمن السابق لأوانه إطلاق الأحكام القطعية على أزمة لم يمض عليها سوى بضعة أيام. فمن المحتمل أن يكون قرار كييف هذا قد ألحق الضرر بموسكو نفسها، حيث أفقدها حصة ثمينة من المنافسة الشرسة مع كل من النرويج والولايات المتحدة وقطر في مجال توريد الغاز الطبيعي إلى القارة الأوروبية.

وفي سياق متصل، كانت شركة غازبروم الروسية الحكومية قد سجلت خسائر صافية تقدر بنحو سبعة مليارات دولار خلال عام 2023، وهي تعتبر أول خسارة سنوية تتكبدها الشركة منذ عام 1999، ويعزى ذلك بشكل أساسي إلى التراجع الكبير في شحناتها إلى أسواق الغاز في دول الاتحاد الأوروبي.

وتشير أحدث التقارير الصادرة في هذا الشأن إلى أن روسيا قد خسرت أكثر من خمسين عامًا من الجهد المتواصل الذي بذلته لبناء حصة رئيسية لها في سوق الغاز الأوروبية، والتي بلغت في ذروتها حوالي 35%. وفي تعليق ساخر على هذا الأمر، نشر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي منشورًا على موقع "إكس" للتواصل الاجتماعي، أشار فيه إلى تحويل أكثر من 130 مليار متر مكعب من الغاز كانت تصدر سنويًا إلى أوروبا إلى صفر، مؤكدًا أن هذا بحد ذاته يشكل أكبر الخسائر التي منيت بها روسيا.

وفي إطار الحديث عن الشأن "العقابي"، لا بد للمتابع أن يتوقف عند ما ينشره رجل الأعمال الأميركي المعروف إيلون ماسك، الذي يتهم الرئيس زيلينسكي بالضلوع في عمليات فساد ونهب للأموال. فهل فعلًا يقوم زيلينسكي بمعاقبة الولايات المتحدة من خلال تبديده للدولارات الأميركية؟ أم أن البعض يرى فيه مجرد ورقة عقابية تستخدمها الإدارة الأميركية ضد شركة غازبروم الروسية، وذلك بهدف تحقيق مكاسب خاصة تتمثل في رفع أرباح الشركات الأميركية العاملة في إنتاج الطاقة والغاز الطبيعي المسال، وذلك عبر إيجاد أسواق أوروبية جديدة لها؟

وقد اعتمد ماسك في اتهاماته تلك على المبالغ المالية الضخمة التي يحصل عليها زيلينسكي تحت مسمى تمويل الحرب الدائرة ضد روسيا. ففي هذا الصدد، أعلنت الولايات المتحدة عن تقديم مساعدات مالية لأوكرانيا تقدر بنحو ستة مليارات دولار، كما كشف الرئيس الأميركي جو بايدن مؤخرًا، في نهاية العام الماضي، عن تقديم حزمة مساعدات أمنية إضافية لأوكرانيا بقيمة 2.5 مليار دولار، في حين صرحت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، أن واشنطن قد أتاحت مبلغًا إضافيًا قدره 3.4 مليارات دولار من الموازنة الأوكرانية.

إلا أن هناك قراءة مغايرة لما يطرحه ماسك، والتي قد تتوافق مع السياسة التي يتبناها الرئيس المنتخب دونالد ترامب، مفادها أن ما قامت به كييف مع بداية هذا العام يحدد بشكل جلي من هو الطرف المعاقَب ومن هو الطرف المعاقِب، ويوضح أن هذا القرار يصب في نهاية المطاف في مصلحة الولايات المتحدة. ففي هذا السياق، ذكرت إدارة معلومات الطاقة الأميركية أن الولايات المتحدة قد صدرت ما يقرب من نصف إجمالي واردات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا منذ عام 2023، الأمر الذي يجعلها أكبر موردي الغاز إلى أوروبا للعام الثالث على التوالي.

يبدو أن ماسك قد تسرع في اتهامه للرئيس زيلينسكي؛ لأن الأخير، بقراره وقف تفعيل اتفاقية نقل الغاز الروسي، قد قدم في الواقع خدمة كبيرة للشركات الأميركية المصدرة للطاقة، خاصة مع الارتفاع الملحوظ في أسعار الغاز في بداية هذا العام، والناجم عن زيادة الطلب بعد انتشار الحديث عن موجة برد قارس تستعد لها القارة الأوروبية خلال شهر يناير/كانون الثاني الحالي. وهذا يتوافق تمامًا مع شعار ترامب "احفر يا عزيزي… احفر"، وهو الشعار الذي من المتوقع أن يكون عنوانًا لسياسة إدارته في زيادة التنقيب عن الغاز وتصديره.

إن عودة ترامب مجددًا إلى البيت الأبيض ستعيد فتح الباب أمام مرحلة جديدة لقطاع النفط، تتأرجح بين احتمالات ارتفاع حجم الإنتاج المحلي الأميركي والضغوط المتزايدة على الأسعار المرتفعة. ولهذا، من المتوقع ألا يسير ترامب على النهج الذي تمناه ماسك، بل سيستمر في دعم كييف في حربها مع روسيا، كما أن تصريحاته التي أطلقها خلال حملاته الانتخابية حول وقف الحرب الروسية الأوكرانية في وقت سريع قد لا تكون في محلها؛ لما تشكله هذه الحرب من مكاسب جمة للولايات المتحدة.

لا يحتاج المتابع إلى بذل جهد كبير حتى يدرك أن الطرف المعاقَب في حرب الطاقة هو روسيا بالدرجة الأولى، وذلك لخسارتها السوق الأوروبية التي كانت تعد السوق الأكبر والأهم بالنسبة إليها، حيث تم تصفير حجم الصادرات. ولا سيما أن الأسواق التي وجدت فيها روسيا بديلًا عن السوق الأوروبية قد لا تكون على القدر نفسه من الثقة، وتحديدًا السوقين الصينية والهندية. فمع بداية الحرب الروسية في عام 2022، وفي ظل دخول العقوبات الغربية حيز التنفيذ على روسيا، كشفت شركات تابعة للدول العملاقة الآسيوية، وعلى رأسها شركة هندوستان بتروليوم الهندية التي تديرها الدولة، أن الهند تجري محادثات مع روسيا بشأن صفقة لشراء النفط والغاز بأسعار مخفضة.

وعلى غرار الشركات الهندية، قامت كذلك الشركات الصينية، حيث نقلت مصادر مطلعة عن كبار المستوردين الصينيين للغاز الطبيعي المسال، بما في ذلك شركتي "سينوبك" و"بروتشاينا"، عن إجراء محادثات لشراء الغاز من روسيا بأسعار مخفضة.

وتحت مظلة صفقات "الأسعار المخفضة"، تقع روسيا في فخ الحرب التي بدأتها، إذ على ما يبدو أن العقاب لا يتوقف عند حدود تصدير الطاقة، بل يمتد ليطال الأصول الروسية المجمدة في المصارف الأوروبية، والتي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، حيث بدأت بالفعل عمليات تمويل حرب أوكرانيا من هذه الأصول.

على ما يبدو، لم يعد بوتين في الوقت الحالي في موقع يسمح له بتحديد الشروط وتصنيف الأطراف المعاقَبة في حرب لم تزل نهايتها بعيدة المنال. حيث إن الإدارة الأميركية الجديدة ما زالت تدرس كافة الخيارات المتاحة لديها فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، بما في ذلك استمرارية الدعم المادي لكييف، على اعتبار أن قرارًا كهذا يخدم أمن الطاقة الأميركي دون سواه.

قد تكون أوكرانيا قد عاقبت الاتحاد الأوروبي بشكل مقصود؛ بسبب رفض الأخير قبول عضويتها، على الرغم من الطلبات المتكررة التي تقدمت بها كييف في هذا الشأن. ورغم أن هذا القرار قد أثار أصواتًا منددة ومهددة بقطع العلاقات مع كييف، كما صرح رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو، فإن روسيا ستظل هي الطرف المعاقَب الرئيسي لخسارتها أبرز أسواق التصدير في عصر مقبل على منافسة شرسة في بناء ممرات الطاقة إلى أوروبا، وتحديدًا من منطقة الشرق الأوسط.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة